تصحيح نموذجي لسؤال التحليل والمناقشة المرافق لنص "جون جاك روسو" والذي اجتازه تلامذة الأولى باكالوريا علوم تجريبية (6) والأولى باكالوريا علوم9
إذا كان الإنسان كائنا واعيا أحيانا ولا واع أحيانا أخرى، يتميز بمجموعة من الرغبات التي تجعل منه كائنا راغبا، فهو أيضا كائن اجتماعي بامتياز، يعيش كفرد داخل جماعة اجتماعية معينة، تربط بينه وبين باقي أفراد هذه الجماعة علاقات يمكن أن يتأسس عليها اجتماعهم، ولعل هذا ما يشير إليه "روسو" في هذا النص؛ إذ يحاول أن يعالج إشكالية طبيعة هذا الاجتماع بين الأفراد داخل المجتمع الذي يحيون فيه، ومن هنا يعن – لنا – سؤالين إشكاليين مشروعين على النحو التالي: ما أساس الاجتماع البشري؟ هل هو أساس اتفاقي تعاقدي أم هو غير ذلك؟
قبل الخوض في الإجابة على هذه الإشكالات لا بد من التأكيد أولا على أن النص يتأسس على بنية مفاهيمية؛ تتمركز بالدرجة الأولى حول مفهوم "العقد" الذي يعتبر ميثاقا سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا ينظم العلاقات بين أفراد المجتمع ويضبطها بمؤسسات مختلفة، هذا الميثاق هو حلقة تحول رئيسية للانتقال من "حال الطبيعة" التي باعتبارها حالا بدائية وضارة للإنسان كانت تؤدي به إلى الهلاك، إلى "حال المدنية" باعتبارها حالا تحقق للإنسان العدالة والأمن والسلام...هذه المكونات المفاهيمية تنبني عليها العناصر الفكرية التي يدور حولها الطرح المتضمن في النص؛ إذ هكذا نجد "روسو" ينطلق في نصه مفترضا أن الناس تجاوزوا العقبات الضارة التي كانوا يجدونها في حال الطبيعة والمتمثلة في غياب الأمن والاستقرار والقانون والأخلاق والنظام وسيادة الحرية الطبيعية...مما كان يشكل خطورة بالغة بالنسبة للجنس البشري، كانت تؤدي به إلى الهلاك ، ويدل بالفعل على أن حالة الطبيعة التي كان يعيشها كانت بالفعل حالة بدائية..
إن هذا التجاوز الذي تحدث عنه "روسو" جاء بفضل ذلك العقد الاجتماعي الذي أصبح يربط بين أفراد المجتمع والذي يتضمن نصوصا محددة بدقة، لا ينبغي انتهاكها، ولعل أبرز ما فيها هو ذلك الشرط الذي بمقتضاه يبيع كل مشترك نفسه وجميع حقوقه إلى الشركة بأكملها بيعا شاملا بمعنى أن كل فرد داخل المجتمع يتخلى بمحض إرادته عن مصالحه الخاصة من أجل تحقيق المصلحة العامة، لأن ذلك يضمن المساواة للجميع، والعدالة والتمتع بالعيش في أمن واستقرار وسلام، بل وكسب الحرية المدنية بدل الحرية الطبيعة..ومن هنا نخلص إلى التصور الذي يتبناه "روسو" والذي يؤكد على ضرورة وجود عقد اجتماعي بين أفراد المجتمع، ومفاده أن يتخلى كل واحد منهم بمحض إرادته عن مصالحه الخاصة من أجل تحقيق المصلحة العامة. وبالمقابل سوف يتمتعون بالعيش في أمان وسلام، ويكسبون الحرية المدنية بدل الحرية الطبيعية، فيكون بذلك الأساس الاجتماعي الذي يربط بينهم هو التعاقد والاتفاق.
ولإثبات هذا التصور يقوم النص على بناء حجاجي استدلالي ينبني بالأساس على أسلوب "التأكيد" الذي تؤشر عليه المؤشرات اللغوية والفكرية والتي تؤكد على ضرورة استحضار العقد الاجتماعي كأساس للتجمع البشري. يقوم النص كذلك على عنصر "التشبيه" الذي يرى من خلاله أن الفرد حينما يتنازل عن حقه الخاص لفائدة المصلحة العامة، فكأنما يكون مشتركا يبيع نفسه للشركة بيعا تاما، ولعل هذا ما يتضح من خلال أسلوب "التعريف/ الاستنتاج" الذي يعرف فيه العقد الاجتماعي بكونه ميثاقا محصورا في أن يضع كل فرد شخصه وكل قوته شركة تحت إرادة الإدارة العامة العليا...
إنه وبلا شك تصور حديث هذا الذي قدمه "روسو" لعلاقة الفرد مع الفرد داخل المجتمع الواحد انطلاقا من فكرة التعاقد الاجتماعي، والذي لا شك فيه أكثر هو أن مجموعة من رواد الفلسفة الحديثة وبشكل خاص تلك المجموعة التي كانت تعرف باسم "فلاسفة العقد الاجتماعي"، ونخص بالذكر "مونتيسكيو"، "طوماس هوبس"، "باروخ اسبينوزا"...اعتنقوا هذا الطرح الجانجاكي المبني على فرضية الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية بواسطة العقد الاجتماعي، وهنا مكمن النقد الموجه إلى هذا الطرح من حيث أنه طرح متخيل أولا، ثم لأنه ثانيا لا يظهر بمظهر القوة أمام أطروحات أخرى تنطلق من الواقع الاجتماعي لتؤكد على أن أساس الروابط الاجتماعية بين الأفراد هو أساس ضروري يكون بالفطرة والطبيعة، وليس بالاتفاق والتعاقد، لأن الإنسان اجتماعي بالطبع ، وهو ما يتأكد مع المفكر العربي المسلم "عبد الرحمان بن خلدون" الذي يستدل على ذلك بأن الإنسان يظل عاجزا بمفرده عن تحقيق متطلباته وحاجياته مالم يتجاوز هذا العجز بالتعاون مع بني جنسه، وخصوصا متطلبات تحقيق القوت اليومي...إن هذه الفطرة والطبيعة التي يقوم عليها الاجتماع البشري ، يثبتها الفيلسوف اليوناني "أرسطو" حينما يقول:" الإنسان مدني بالطبع"، ومعناها أن التجمعات البشرية هي تحقيق لطبيعة الإنسان واكتمال لماهيته...
و على العموم ما يمكن أن نخلص إليه هو أن مسألة أساس الاجتماع البشري تبقى مفتوحة على مجموعة من التعارضات القائمة بين من يعتبر هذا الأساس أساسا مبنيا على الاتفاق والتعاقد وبين من يراه متأسسا على الضرورة والفطرة ، لكن يبقى الرهان الأساسي المطروح هو: هل يلتزم الفرد كعضو من وحدة اجتماعية معينة بتلك المواثيق والاتفاقات إن كان الأساس اتفاقيا أو المبادئ الطبيعية الفطرية إن كان الأساس ضروريا مع باقي أعضاء جماعته؟