مفهوم حقوق الانسان في الفلسفة الحديثة
يكتسي موضوع حقوق الإنسان أهمية متزايدة بالنظر إلى أنه أصبح أداة نضال سياسي ضد مظاهر الاستبداد، ومن أجل الدفاع عن الحقوق الفردية ضد تعسف الدولة والسلطات المركزية، ومن أجل إنشاء دولة القانون والحقوق.
وبنفس الوقت يتزايد اهتمام الفلسفة بموضوع حقوق الإنسان بسبب التنافس المحتدم بين الفلاسفة والحقوقيين عامة حول مشروعية وأحقية الحديث عن حقوق الإنسان، إضافة إلى أن قرار إدخال ثقافة حقوق الإنسان ضمن برامج التعليم قد فجر تنافسا قويا بين المواد الحاملة أو المفترض أن تكون كذلك.
هذه الوضعية تطرح ضرورة التساؤل حول علاقة الفلسفة بحقوق الإنسان، وحول مشروعية الحديث الفلسفي في هذا الموضوع، وحول سماته العامة.
هناك، على زجه العموم ثلاثة أنماط من الخطاب حول حقوق الإنسان، أولها الخطاب العلمي. وهو خطاب وصفي وأكاديمي نموذجه العلوم السياسية التي يجري فيها وصف منظومة حقوق الإنسان، وأنواعها وأجيالها وفئاتها، والمؤسسات الوطنية والدولية المكلفة بحمايتها، والنصوص القانونية والإعلانات والمعاهدات والاتفاقيات الدولية المعقودة بصددها. مقابل هذا الخطاب العلمي المحايد يزدهر نوع آخر هو الخطاب الإيديولوجي، أي خطاب المناضل السياسي والحقوقي الذي يتخذ من منظومة حقوق الإنسان أداة نضال سياسي ضد هذه السلطة أو تلك. وهذا الخطاب يتسم بنزعته الدعوية والتعبوية والنضالية الواضحة.
لكن هناك نمطا ثالثا، وهو الخطاب الفلسفي حول حقوق الإنسان. وهو بالتأكيد غير الخطاب العلمي، وغير الخطاب الإيديولوجي، فسمته الأساسية هي أنه خطاب تساؤلي أكثر مما هو خطاب تقريري وهو، على العموم، يتخذ ثلاثة أنماط.
I- الخطاب الكاشف للأوهام والاستثمارات:
تتسم الفلسفة المعاصرة باتخاذها موقفا توجسيا وتشككيا تجاه المثل عامة، إذ تكشف عما يكمن خلفها من رغبات وإرادات قوة أو استثمارات اقتصادية وإيديولوجية وسيكولوجية، فمثل كالوحدة والحرية والحق والديمقراطية والاشتراكية هي قيم نبيلة في حد ذاتها، لكنها معرضة للاستثمار أو الاستغلال من طرف أفراد أو فئات أو نخب اجتماعية تتخذ منها أقنعة تخفي بها استراتيجياتها في الهيمنة.
وخطاب حقوق الإنسان نفسه لا يسلم من هذه الاستثمارات إما على الصعيد الداخلي لكل بلد، حيث يتم توظيفها من قبل الدولة أو الأحزاب أو من بعض الفئات المهنية كالحقوقيين والمحامين والأساتذة كل بطريقته الخاصة. كما أن هذه المنظومة الحقوقية قد تم استغلالها من طرف الغرب و"العالم الحر" كقوة ضاربة ضد المعسكر الاشتراكي سابقا، أو بانتزاع "حق التدخل" ضد بعض الدول باسم حماية حقوق الإنسان فيها.
تقدم الاتجاهات الفلسفية الحديثة السند والأساس الفكري الذي يساعد على تطوير موقف الشك والتوجس تجاه المثل عامة. فالتحليل النفسي ينظر إلى المثل في علاقتها بالأنا الأعلى، وينظر إليها من زاوية أنها بنية فكرية تعويضية أو تمويهية على الذات. وسواء تعلق الأمر بالمثل الجماعية التي هي جزء من المتخيل الجمعي الذي يؤدي وظيفة تعويضية أو تحقيق نوع من التوازن في النفسية الجماعية، أو تعلق الأمر بالمثل الفردية فإن التحليل النفسي ينظر إليها من زاوية وظائفها السيكولوجية الجماعية أو الفردية.
ومثل هذا الموقف المتشكك نجده عند نيتشه الذي يعتبر المثل بنيات أخلاقية تحمل أقنعة ماكرة من حيث أنها تعبير مقنَّع عن إرادة القوة. وقد سبق لنيتشه في كتابه إرادة القوة أن عرَّف الحق من خلال القانون الذي يصوغه ويعبر عنه على أنه يعبر عن "الرغبة في تخليد ميزان (أو علاقات) القوة الحالي للطرف الذي هو في صالحه".
وفي منظور مقارب يعتبر ماركس المثل أوهاما وتضليلات طبقية، ناظرا إلى القانون وإلى وجهه الآخر المتمثل في الحق على أنهما انعكاس لعلاقات القوة الاقتصادية والسياسية المهيمنة والسائدة في المجتمع. كما يعتبر التوسير القانون جهازا إيديولوجيا تتمثل وظيفته في شرعنة وتخليد السيادة والسيطرة بالتمويه عليها بإخفاء علاقات السيطرة تحت غُلالة من الأخلاق والمثل السامية.
والفلسفة المعاصرة لم تخرج عن هذا المنظور ذي النفحة النيشوية الواضحة. فميشيل فوكو ينظر إلى المثال على أنه يخفي مجموعة من القوى، ويعتبر القانون بمثابة حرب مشنونة بوسائل أخرى. والقاعدة الأساسية التي تحكم منظور فوكو كما صاغها دولوز هي "الشكل عبارة عن علاقات قوى".
ويشير هذا الأخير في دراسة له عن فوكو إلى أن فيلسوف السلطة لم ينخدع يوما بمقولة "دولة الحق والقانون" ولم يتبتل يوما في محرابها لأنه يفترض أن وراء الحق والقانون دوما إرادات سيطرة.
روح الفلسفة المعاصرة مشحونة بالتوجس والتشكك تجاه الحقوق والقوانين والمثل لأنها ترى أن وراء الحقوق مصالح ورغبات، ووراء لائحة القيم لائحة مصالح خفية. إن القانون أو الحق في هذا المنظور، تعبير عن إرادة قوة تقدم نفسها على شكل حق وعلى شكل إرادة جماعية للخير.
II- خطاب التفكيك والتفكير في شروط الإمكان:
هناك اتجاهات في الفلسفة المعاصرة تمارس نوعا من الحفريات الفلسفية حيث تفكك المفاهيم والنظريات باحثة عن الجذور الفكرية (والاجتماعية) البعيدة التي تجعلها ممكنة.
فالشروط الاجتماعية لإمكان قيام حقوق الإنسان هي قيام المجتمع الحديث، ونشوء ضرب جديد من الشرعية يدعي الشرعية الموضوعية أو المؤسسية، وتحول الفرد من مجرد كونه رقما مجهولا في المعادلة الاجتماعية إلى كونه مواطنا ذا حقوق (Sujet de droit)، ومشاركا فاعلا (Sujet) في المجال السياسي.
أما الشروط الفكرية للإمكان (Conditions de pensabilité) بالنسبة لمنظومة حقوق الإنسان فهي النزعة الإنسانية في مدلولها الفلسفي لا الأخلاقي، وهي نزعة ترتكز على تطوير تصور جديد للإنسان قوامه أن الإنسان كائن واع، وحر، ومريد وفاعل، ومسؤول ومن ثمة فإنه بمثابة مركز ومرجع في الكثير من العمليات التاريخية.
والنزعة الإنسانية (L’Humanisme)، التي هي الخلفية الفكرية والمصادرة الفلسفية الأساسية لحقوق الإنسان هي نوع من الميتافيزيقا في نظر هيدجر، أي رؤية فلسفية تتبنى تصورا معينا للكائن وتصورا معينا للحقيقة.
هكذا تشكل النزعة الإنسانية السند الأساسي للنزعة الإنسانية الحقوقية أو القانونية، ومثل هذا الحفر في الجذور الفلسفية لمنظومة حقوق الإنسان بل للنزعة الإنساني ذاتها نجد أسسه في فلسفة هيدجر والاتجاهات الفلسفية المتأثرة بها. فديريدا يشير إلى العلاقة الباروكية المعقدة بين النزعة اللاإنسانية الحديثة وخطاب حقوق الإنسان، كما يشير إلى المفارقة المتمثلة في أنه من الضروري فلسفيا تفكيك النزعة الإنسانية التي هي الأساس الفلسفي لحقوق الإنسان، والتي يكون من الضروري نقدها، لكنه يرى أيضا أن خطاب حقوق الإنسان هو خطاب ضروري سياسيا لأنه أداة لمناهضة النزعة الكليانية.
الأساس الثاني الذي يشكل سندا لمنظومة حقوق الإنسان فهو النزعة الإنسانية الحقوقية (Humanisme juridique). وهذه الأخيرة تتضمن وتؤسس لتصور الإنسان كفاعل قانوني (أي كصاحب حق Sujet de droit) وكفاعل سياسي أي كمواطن تشريعي سواء تعلق الأمر بالذات الفردية أو بالذات الجماعية (الشعب).
المدلول الملموس للنزعة الإنسانية التشريعية هو تحقق المواطن كمشارك وفاعل سياسي والشعب كفاعل سياسي، على المستويين النظري والعملي. فحق الفرد في حرية الرأي والفكر هو حقه في أن يكون سيد أفكاره، كما أن حق الفرد في حرية الفعل والسلوك يعني حقه في امتلاك القدرة على التصرف أي في أن يكون سيد أفعاله وممارساته مثلما أن حق الشعب يتمثل في أن يكون سيد مصيره وسيد أفعاله وقراراته.
III – خطاب التأصيل الفلسفي:
إذا كان الخطاب الأول خطابا توجسيا وكاشفا، والخطاب الثاني بحثا عن شروط الإمكان وعن المصادرات والخلفيات الفلسفية، فإن النمط الثالث ذو سمة تأسيسية وتأصيلية، فهو تنقيب عن الجذور والأفكار المؤسسة لحقوق الإنسان، وهي في نفس الوقت المحاضن والسلالات الفكرية التي نشأ وترعرع فيها هذا الخطاب والمرتكزات الفكرية الأساسية التي استند عليها، وهي على وجه العموم ثلاث أنوية وشبكات من الأفكار: الحرية، والعقد الاجتماعي، والحق الطبيعي.
ومن المؤكد أن خطاب حقوق الإنسان ارتبط بالتحولات الفكرية والفلسفية الكبرى في الفكر الغربي الحديث، والتي طالت تصور الإنسان، والطبيعة، والتاريخ، كما طالت طبيعة المعرفة ذاتها. لكن الروافد الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان ارتبطت بالأفكار المحورية الثلاث التي شكلت العمود الفقري للمنظومة برمتها.
فكرة الحرية: تنقسم حقوق الإنسان عامة إلى حقوق/حريات وحقوق/ديون، أي إلى حقوق ليبرالية، وحقوق اجتماعية مما يعني أن جل الحقوق المنصوص عليها في المنظومة هي في العمق حريات. فحق التملك ليس إلا حرية التملك، وحق الأمن ليس إلا حرية الحركة، وحق التعبير هو في النهاية حرية التعبير وهكذا.
وفكرة الحرية هاته، التي تشكل صلب وقوام المنظومة الحقوق إنسانية، هي التعريف الذي نسبته الفلسفة الحديثة للإنسان. فالإنسان عند ديكارت هو كائن الاختيار الحر، وهو مملكة الحرية عند كنط، كما أن هيجل يعتبر أن حرية التفكير والقرار هي السمة الأساسية المميزة للإنسان في العصور الحديثة.
فهيجل يرى أن "الحق في الحرية الذاتية يشكل النقطة الحاسمة والمركزية التي تجسد اختلاف الأزمنة الحديثة عن العصور القديمة" ("فلسفة الحق") كما اعتبر روسو الحرية صفة أساسية للإنسان وحقا غير قابل للسلب وغير قابل للتصرف ("العقد الاجتماعي").
وعلى وجه الإجمال فإن الاتجاهات الفلسفية الحديثة تعتبر أن الحق هو الوجه الخارجي، أو التحقق الخارجي للحرية، فالحرية هي جوهر الحق والحق هو صيغة الحرية.
وفكرة الحرية هاته التي تبلورت حولها الفلسفة الحديثة واعتبرتها بمثابة تعريف للإنسان الحديث، وجوهرا له، هي جزء أساسي من النزعة الفلسفية الإنسانية (Humanisme) الحديثة التي تتمحور حول تصور للإنسان قوامه: العقل والإرادة والحرية.
فكرة العقد الاجتماعي: تشكل فكرة العقد الاجتماعي، على الرغم من طالعها الفرضي من الزاوية التاريخية، الفكرة المحورية للفلسفة السياسية الحديثة، وعنوان ثورة فكرية في تصور المجتمع والسلطة والسياسة. وقد تبلورت هذه الفكرة في جذورها البعيدة في مدرسة الحق الطبيعي حيث أشار غروتيوسن، أحد رواد هذه المدرسة، إلى أنه "يجب إقامة الدولة على الميل الطبيعي نحو العيش المأمون والمأمول عن طريق البحث عن قواعد قانونية قائمة على العقل". وقد شكلت هذه الفكرة مطية تحول أساسي في فكرة الشرعية (legalité) حيث أصبحت السلطة، من خلال منظور التعاقدي، مؤسسة إنسانية تستمد شرعيتها من التعاقد بين الناس، وهو التعاقد المنظم للحريات والحقوق. وبذلك أصبحت المشروعية السياسية والاجتماعية مرتبطة بالذاتية الإنسانية كذاتية مسؤولة وفاعلة من حيث أنها حرة.
فكرة الحق الطبيعي: وقد شهدت هذه الفكرة نفسها صراعا وتطورا كبيرين، فقد ظلت محط تنازع بين تأويل يرجع الحق إلى الخلق وتأويل يرجع الحق إلى الطبيعة. كما شهدت هذه الفكرة الأخيرة تحولا من الطبيعة الخارجية، وهي المسلمة الأساسية في الفلسفة اليونانية القديمة، حيث يقوم الحق الطبيعي بمفهومه القديم على اللامساواة والتراتب الطبيعي الذي تؤسس له فيزياء أرسطو، إلى مفهوم الطبيعة بمعناه الحديث، وهو الطبيعة البشرية القائمة على العقل والمستندة إلى أساس أنطولوجي قوامه مبدأ المساواة كما سلمت به علوم الطبيعة الحديثة ابتداء من غاليلو.
نعثر لدى هوبز على تعريف للحق الطبيعي يلم شتات العناصر الثلاث المؤسسة لحقوق الإنسان بمفهومها الحديث حيث يقول: "الحق الطبيعي هو الحرية التي يملكها كل إنسان في أن يستعمل كما يشاء قدراته الخاصة". وكلمة ما يشاء لا تخلو من دلالة تعاقدية تصرح بها وتنص عليها فلسفة هوبز التي هي فلسفة الحداثة السياسية بامتياز. وبذلك تندغم فكرة الحق بفكرة الحرية وبفكرة الذاتية والتعاقد لتشكل الأساس الفلسفي لمنظومة حقوق الإنسان في مفهومها الغربي الحديث.
المراجع
- هيجل: مبادئ فلسفة الحق، ترجمة إ.ع.إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1994.
- J.Habermas: Le discours philosophique de la modernité, tr. Fr, Gallimard, 1985.
- Renault et Sose: Philosophie du droit, PUF 1996.
- B.Bourgeois: Philosophie et droits de l’homme, PUF 1990.
- Luc Ferry et A.Renault : Philosophie politique, tome III, PUF.
- Blandine Kriegel: Droit naturel et droits de l’homme, Quadrige.
يكتسي موضوع حقوق الإنسان أهمية متزايدة بالنظر إلى أنه أصبح أداة نضال سياسي ضد مظاهر الاستبداد، ومن أجل الدفاع عن الحقوق الفردية ضد تعسف الدولة والسلطات المركزية، ومن أجل إنشاء دولة القانون والحقوق.
وبنفس الوقت يتزايد اهتمام الفلسفة بموضوع حقوق الإنسان بسبب التنافس المحتدم بين الفلاسفة والحقوقيين عامة حول مشروعية وأحقية الحديث عن حقوق الإنسان، إضافة إلى أن قرار إدخال ثقافة حقوق الإنسان ضمن برامج التعليم قد فجر تنافسا قويا بين المواد الحاملة أو المفترض أن تكون كذلك.
هذه الوضعية تطرح ضرورة التساؤل حول علاقة الفلسفة بحقوق الإنسان، وحول مشروعية الحديث الفلسفي في هذا الموضوع، وحول سماته العامة.
هناك، على زجه العموم ثلاثة أنماط من الخطاب حول حقوق الإنسان، أولها الخطاب العلمي. وهو خطاب وصفي وأكاديمي نموذجه العلوم السياسية التي يجري فيها وصف منظومة حقوق الإنسان، وأنواعها وأجيالها وفئاتها، والمؤسسات الوطنية والدولية المكلفة بحمايتها، والنصوص القانونية والإعلانات والمعاهدات والاتفاقيات الدولية المعقودة بصددها. مقابل هذا الخطاب العلمي المحايد يزدهر نوع آخر هو الخطاب الإيديولوجي، أي خطاب المناضل السياسي والحقوقي الذي يتخذ من منظومة حقوق الإنسان أداة نضال سياسي ضد هذه السلطة أو تلك. وهذا الخطاب يتسم بنزعته الدعوية والتعبوية والنضالية الواضحة.
لكن هناك نمطا ثالثا، وهو الخطاب الفلسفي حول حقوق الإنسان. وهو بالتأكيد غير الخطاب العلمي، وغير الخطاب الإيديولوجي، فسمته الأساسية هي أنه خطاب تساؤلي أكثر مما هو خطاب تقريري وهو، على العموم، يتخذ ثلاثة أنماط.
I- الخطاب الكاشف للأوهام والاستثمارات:
تتسم الفلسفة المعاصرة باتخاذها موقفا توجسيا وتشككيا تجاه المثل عامة، إذ تكشف عما يكمن خلفها من رغبات وإرادات قوة أو استثمارات اقتصادية وإيديولوجية وسيكولوجية، فمثل كالوحدة والحرية والحق والديمقراطية والاشتراكية هي قيم نبيلة في حد ذاتها، لكنها معرضة للاستثمار أو الاستغلال من طرف أفراد أو فئات أو نخب اجتماعية تتخذ منها أقنعة تخفي بها استراتيجياتها في الهيمنة.
وخطاب حقوق الإنسان نفسه لا يسلم من هذه الاستثمارات إما على الصعيد الداخلي لكل بلد، حيث يتم توظيفها من قبل الدولة أو الأحزاب أو من بعض الفئات المهنية كالحقوقيين والمحامين والأساتذة كل بطريقته الخاصة. كما أن هذه المنظومة الحقوقية قد تم استغلالها من طرف الغرب و"العالم الحر" كقوة ضاربة ضد المعسكر الاشتراكي سابقا، أو بانتزاع "حق التدخل" ضد بعض الدول باسم حماية حقوق الإنسان فيها.
تقدم الاتجاهات الفلسفية الحديثة السند والأساس الفكري الذي يساعد على تطوير موقف الشك والتوجس تجاه المثل عامة. فالتحليل النفسي ينظر إلى المثل في علاقتها بالأنا الأعلى، وينظر إليها من زاوية أنها بنية فكرية تعويضية أو تمويهية على الذات. وسواء تعلق الأمر بالمثل الجماعية التي هي جزء من المتخيل الجمعي الذي يؤدي وظيفة تعويضية أو تحقيق نوع من التوازن في النفسية الجماعية، أو تعلق الأمر بالمثل الفردية فإن التحليل النفسي ينظر إليها من زاوية وظائفها السيكولوجية الجماعية أو الفردية.
ومثل هذا الموقف المتشكك نجده عند نيتشه الذي يعتبر المثل بنيات أخلاقية تحمل أقنعة ماكرة من حيث أنها تعبير مقنَّع عن إرادة القوة. وقد سبق لنيتشه في كتابه إرادة القوة أن عرَّف الحق من خلال القانون الذي يصوغه ويعبر عنه على أنه يعبر عن "الرغبة في تخليد ميزان (أو علاقات) القوة الحالي للطرف الذي هو في صالحه".
وفي منظور مقارب يعتبر ماركس المثل أوهاما وتضليلات طبقية، ناظرا إلى القانون وإلى وجهه الآخر المتمثل في الحق على أنهما انعكاس لعلاقات القوة الاقتصادية والسياسية المهيمنة والسائدة في المجتمع. كما يعتبر التوسير القانون جهازا إيديولوجيا تتمثل وظيفته في شرعنة وتخليد السيادة والسيطرة بالتمويه عليها بإخفاء علاقات السيطرة تحت غُلالة من الأخلاق والمثل السامية.
والفلسفة المعاصرة لم تخرج عن هذا المنظور ذي النفحة النيشوية الواضحة. فميشيل فوكو ينظر إلى المثال على أنه يخفي مجموعة من القوى، ويعتبر القانون بمثابة حرب مشنونة بوسائل أخرى. والقاعدة الأساسية التي تحكم منظور فوكو كما صاغها دولوز هي "الشكل عبارة عن علاقات قوى".
ويشير هذا الأخير في دراسة له عن فوكو إلى أن فيلسوف السلطة لم ينخدع يوما بمقولة "دولة الحق والقانون" ولم يتبتل يوما في محرابها لأنه يفترض أن وراء الحق والقانون دوما إرادات سيطرة.
روح الفلسفة المعاصرة مشحونة بالتوجس والتشكك تجاه الحقوق والقوانين والمثل لأنها ترى أن وراء الحقوق مصالح ورغبات، ووراء لائحة القيم لائحة مصالح خفية. إن القانون أو الحق في هذا المنظور، تعبير عن إرادة قوة تقدم نفسها على شكل حق وعلى شكل إرادة جماعية للخير.
II- خطاب التفكيك والتفكير في شروط الإمكان:
هناك اتجاهات في الفلسفة المعاصرة تمارس نوعا من الحفريات الفلسفية حيث تفكك المفاهيم والنظريات باحثة عن الجذور الفكرية (والاجتماعية) البعيدة التي تجعلها ممكنة.
فالشروط الاجتماعية لإمكان قيام حقوق الإنسان هي قيام المجتمع الحديث، ونشوء ضرب جديد من الشرعية يدعي الشرعية الموضوعية أو المؤسسية، وتحول الفرد من مجرد كونه رقما مجهولا في المعادلة الاجتماعية إلى كونه مواطنا ذا حقوق (Sujet de droit)، ومشاركا فاعلا (Sujet) في المجال السياسي.
أما الشروط الفكرية للإمكان (Conditions de pensabilité) بالنسبة لمنظومة حقوق الإنسان فهي النزعة الإنسانية في مدلولها الفلسفي لا الأخلاقي، وهي نزعة ترتكز على تطوير تصور جديد للإنسان قوامه أن الإنسان كائن واع، وحر، ومريد وفاعل، ومسؤول ومن ثمة فإنه بمثابة مركز ومرجع في الكثير من العمليات التاريخية.
والنزعة الإنسانية (L’Humanisme)، التي هي الخلفية الفكرية والمصادرة الفلسفية الأساسية لحقوق الإنسان هي نوع من الميتافيزيقا في نظر هيدجر، أي رؤية فلسفية تتبنى تصورا معينا للكائن وتصورا معينا للحقيقة.
هكذا تشكل النزعة الإنسانية السند الأساسي للنزعة الإنسانية الحقوقية أو القانونية، ومثل هذا الحفر في الجذور الفلسفية لمنظومة حقوق الإنسان بل للنزعة الإنساني ذاتها نجد أسسه في فلسفة هيدجر والاتجاهات الفلسفية المتأثرة بها. فديريدا يشير إلى العلاقة الباروكية المعقدة بين النزعة اللاإنسانية الحديثة وخطاب حقوق الإنسان، كما يشير إلى المفارقة المتمثلة في أنه من الضروري فلسفيا تفكيك النزعة الإنسانية التي هي الأساس الفلسفي لحقوق الإنسان، والتي يكون من الضروري نقدها، لكنه يرى أيضا أن خطاب حقوق الإنسان هو خطاب ضروري سياسيا لأنه أداة لمناهضة النزعة الكليانية.
الأساس الثاني الذي يشكل سندا لمنظومة حقوق الإنسان فهو النزعة الإنسانية الحقوقية (Humanisme juridique). وهذه الأخيرة تتضمن وتؤسس لتصور الإنسان كفاعل قانوني (أي كصاحب حق Sujet de droit) وكفاعل سياسي أي كمواطن تشريعي سواء تعلق الأمر بالذات الفردية أو بالذات الجماعية (الشعب).
المدلول الملموس للنزعة الإنسانية التشريعية هو تحقق المواطن كمشارك وفاعل سياسي والشعب كفاعل سياسي، على المستويين النظري والعملي. فحق الفرد في حرية الرأي والفكر هو حقه في أن يكون سيد أفكاره، كما أن حق الفرد في حرية الفعل والسلوك يعني حقه في امتلاك القدرة على التصرف أي في أن يكون سيد أفعاله وممارساته مثلما أن حق الشعب يتمثل في أن يكون سيد مصيره وسيد أفعاله وقراراته.
III – خطاب التأصيل الفلسفي:
إذا كان الخطاب الأول خطابا توجسيا وكاشفا، والخطاب الثاني بحثا عن شروط الإمكان وعن المصادرات والخلفيات الفلسفية، فإن النمط الثالث ذو سمة تأسيسية وتأصيلية، فهو تنقيب عن الجذور والأفكار المؤسسة لحقوق الإنسان، وهي في نفس الوقت المحاضن والسلالات الفكرية التي نشأ وترعرع فيها هذا الخطاب والمرتكزات الفكرية الأساسية التي استند عليها، وهي على وجه العموم ثلاث أنوية وشبكات من الأفكار: الحرية، والعقد الاجتماعي، والحق الطبيعي.
ومن المؤكد أن خطاب حقوق الإنسان ارتبط بالتحولات الفكرية والفلسفية الكبرى في الفكر الغربي الحديث، والتي طالت تصور الإنسان، والطبيعة، والتاريخ، كما طالت طبيعة المعرفة ذاتها. لكن الروافد الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان ارتبطت بالأفكار المحورية الثلاث التي شكلت العمود الفقري للمنظومة برمتها.
فكرة الحرية: تنقسم حقوق الإنسان عامة إلى حقوق/حريات وحقوق/ديون، أي إلى حقوق ليبرالية، وحقوق اجتماعية مما يعني أن جل الحقوق المنصوص عليها في المنظومة هي في العمق حريات. فحق التملك ليس إلا حرية التملك، وحق الأمن ليس إلا حرية الحركة، وحق التعبير هو في النهاية حرية التعبير وهكذا.
وفكرة الحرية هاته، التي تشكل صلب وقوام المنظومة الحقوق إنسانية، هي التعريف الذي نسبته الفلسفة الحديثة للإنسان. فالإنسان عند ديكارت هو كائن الاختيار الحر، وهو مملكة الحرية عند كنط، كما أن هيجل يعتبر أن حرية التفكير والقرار هي السمة الأساسية المميزة للإنسان في العصور الحديثة.
فهيجل يرى أن "الحق في الحرية الذاتية يشكل النقطة الحاسمة والمركزية التي تجسد اختلاف الأزمنة الحديثة عن العصور القديمة" ("فلسفة الحق") كما اعتبر روسو الحرية صفة أساسية للإنسان وحقا غير قابل للسلب وغير قابل للتصرف ("العقد الاجتماعي").
وعلى وجه الإجمال فإن الاتجاهات الفلسفية الحديثة تعتبر أن الحق هو الوجه الخارجي، أو التحقق الخارجي للحرية، فالحرية هي جوهر الحق والحق هو صيغة الحرية.
وفكرة الحرية هاته التي تبلورت حولها الفلسفة الحديثة واعتبرتها بمثابة تعريف للإنسان الحديث، وجوهرا له، هي جزء أساسي من النزعة الفلسفية الإنسانية (Humanisme) الحديثة التي تتمحور حول تصور للإنسان قوامه: العقل والإرادة والحرية.
فكرة العقد الاجتماعي: تشكل فكرة العقد الاجتماعي، على الرغم من طالعها الفرضي من الزاوية التاريخية، الفكرة المحورية للفلسفة السياسية الحديثة، وعنوان ثورة فكرية في تصور المجتمع والسلطة والسياسة. وقد تبلورت هذه الفكرة في جذورها البعيدة في مدرسة الحق الطبيعي حيث أشار غروتيوسن، أحد رواد هذه المدرسة، إلى أنه "يجب إقامة الدولة على الميل الطبيعي نحو العيش المأمون والمأمول عن طريق البحث عن قواعد قانونية قائمة على العقل". وقد شكلت هذه الفكرة مطية تحول أساسي في فكرة الشرعية (legalité) حيث أصبحت السلطة، من خلال منظور التعاقدي، مؤسسة إنسانية تستمد شرعيتها من التعاقد بين الناس، وهو التعاقد المنظم للحريات والحقوق. وبذلك أصبحت المشروعية السياسية والاجتماعية مرتبطة بالذاتية الإنسانية كذاتية مسؤولة وفاعلة من حيث أنها حرة.
فكرة الحق الطبيعي: وقد شهدت هذه الفكرة نفسها صراعا وتطورا كبيرين، فقد ظلت محط تنازع بين تأويل يرجع الحق إلى الخلق وتأويل يرجع الحق إلى الطبيعة. كما شهدت هذه الفكرة الأخيرة تحولا من الطبيعة الخارجية، وهي المسلمة الأساسية في الفلسفة اليونانية القديمة، حيث يقوم الحق الطبيعي بمفهومه القديم على اللامساواة والتراتب الطبيعي الذي تؤسس له فيزياء أرسطو، إلى مفهوم الطبيعة بمعناه الحديث، وهو الطبيعة البشرية القائمة على العقل والمستندة إلى أساس أنطولوجي قوامه مبدأ المساواة كما سلمت به علوم الطبيعة الحديثة ابتداء من غاليلو.
نعثر لدى هوبز على تعريف للحق الطبيعي يلم شتات العناصر الثلاث المؤسسة لحقوق الإنسان بمفهومها الحديث حيث يقول: "الحق الطبيعي هو الحرية التي يملكها كل إنسان في أن يستعمل كما يشاء قدراته الخاصة". وكلمة ما يشاء لا تخلو من دلالة تعاقدية تصرح بها وتنص عليها فلسفة هوبز التي هي فلسفة الحداثة السياسية بامتياز. وبذلك تندغم فكرة الحق بفكرة الحرية وبفكرة الذاتية والتعاقد لتشكل الأساس الفلسفي لمنظومة حقوق الإنسان في مفهومها الغربي الحديث.
المراجع
- هيجل: مبادئ فلسفة الحق، ترجمة إ.ع.إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1994.
- J.Habermas: Le discours philosophique de la modernité, tr. Fr, Gallimard, 1985.
- Renault et Sose: Philosophie du droit, PUF 1996.
- B.Bourgeois: Philosophie et droits de l’homme, PUF 1990.
- Luc Ferry et A.Renault : Philosophie politique, tome III, PUF.
- Blandine Kriegel: Droit naturel et droits de l’homme, Quadrige.